فى ذلك المساء كان قد اتخذ القرار النهائى ثم قام بالقاء نظرة أخيرة على والده الذى لا يفارق الفراش بعد إصابته التى اعاقته عن الحركة,وفى الطريق بدأ يسترجع ذكرياته المؤلمة كما تجلت أمامه صورة شهادة التخرج بتقدير جيد جيدا ورقصة والده وصراخه"ابنى اخد الشهادة الكبيرة الحمد لله"وصور كورسات الكمبيوتر واللغة الإنجليزية من المكلفة"معلش يا بابا بيقولوا الكورس ده شغله جامد جدا بره وإن شاء الله الفلوس تتعوض من الشغل" إلى المدعمة"معنا تتقن الإنجليزيةوالكمبيوتر فى 5 أسابيع ب 150 جنيه فقط" إلى المجانية"يا ابنى بيقولوا الوزارة
منزلة منح حلوة قوى وبالمجان" بالإضافة إلى صورة شهادة الخدمة العسكرية بدرجة قدوة حسنة كما زاد من ألمه تذكره للأصوات التى طالما أحبها وأحبته "هانت يابطل شهرين وتتخرج ...","ضريبة الدم لازم يدفعها الشباب القوى...","إن الله مع الصابرين..",ثم بداية المسلسل الذى كان شبه يومى "إحنا طالبين خبرة","بتعرف تعمل إيه؟؟!!!","هانبقى نتصل بيك","إحنا عاوزيين شهادات معتمدة ",وأخيرا إصابة والده بعد أربعين عاما من العمل
فى وزارة النقل فكانت مساعدة الوزارة كرسى متحرك وعكازيين بالإضافة لمبلغ قد اوشك عل النفاذ .كل هذه الذكريات جعلته فى شبه غيبوبة لم يفق منها الا فى محطة مترو الدمرداش وأمام شباك التذاكر حينما صاح فيه الموظف" يلا يا أستاذ اللى وراك عاوز يمشى.." فاخذ التذكرة وتابع سيره فى اتجاه الرصيف ووصل اخيرا إلى رصيف المحطة ولكنه كان مترددا فالموت كفرا ليس الحل وهناك ملايين الشباب فى مثل ظروفه بل فى أسوأ منها وفى تلك اللحظات جاء قطار المترو مسرعا ويقترب بشده فتراجع واستغفر الله ثم قال الحمد لله وهم بالخروج من المحطة لكنه عاوده ألم التفكير حينما تذكر أباه المريض وتكاليف علاجه واخوه الذى يدرس فى الجامعة واخته الصغيره فكيف سيقوم بمتطلباتهم فعاد هاربا إلى القطار التالى لكن سيدة عجوز إستوقفته لتسأله:عاوزة أروح
طرة يا أبنى
فقال:إركبى ياحاجة وإنزلى محطة مبارك وبعدين غيرى لإتجاه حلوان
السيدة :شكرا يا إبنى ثم شاكية حالها منهم لله ولادى اللى مدوخينى كان مالها الشقق القريبة
لم يستطيع أن يلحق بالقطار فى المرة الثانية,ولكن فى المرة الأخيرة غاب صوت الإيمان وصوت العقل وسيطرت عليه هواجسه النفسية كما لم تكن هناك سيدة طرة لتمنعه فاتخذ مكانه فى الاتجاه المضاد للقطار ولم يستغرق الأمر لحظات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق