أخرج ملابسه الشتوية الثقيلة تلك التى كان يرتديها فى يناير والتى كانت بمثابة خط الدفاع الأخير عن جسده من ضربات عصى الأمن المركزى ,إرتداها كاملة رغم ان الجو شديد الحرارة الآن ثم فتح درج مكتبه وأخرج كمامة صغيرة شبه ممزقة كان قد أعطاها له شخص لايعرفه أثناء المظاهرات وقال له " إلبس ديه بسرعة عشان الغاز"فأحتفظ بها كأثر من آثار الثورة ثم قام بحمل اللابتوب الخاص به والذى يحوى مئات من الأشعار والمقالات والتعليقات والتويتات منذ قيام الثورة وإنطلق فى صمت تام إلى خارج المنزل.
ركب المترو حتى محطة الأوبرا كما كان معتادا فى أيام الثورة ثم استكمل مشواره سيرا على الأقدام حتى وصل إلى منتصف كوبرى قصر النيل وقف فى لحظة تأمل يتذكر مشهد تلك الجموع الغفيرة التى خرجت ثائرة على الفساد الذى نخر فى عظام الوطن وطالت شباكه كل الميادين والشوارع والحوارى والأزقة,يميل بأذنه قليلا كمن يستمع إلى شىء فيتذكر نشيد "بلادى بلادى" الذى هز ذلك الكوبرى فى يوم الثامن والعشرين من يناير,يبتسم إبتسامة صغيرة ثم يفتح شفتيه فى محاولة لإستعادة ذلك المشهد مرة أخرى وفى شوق إلى ترديد النشيد مع الجموع لكنه سرعان مايطبق شفتيه فى آسى عندما يعيد قراءة المشهد الحالى فيرى أن تفرقا قد ساد بعد وحدة ,يميل بأذنه مرة أخرى فيستمع إلى فريق ينادى بالحرية ويبشر بجنة الديموقراطية التى ستقودنا الى مقدمة الشعوب مرة أخرى ويحذر من القوى الإسلامية التى تقودنا إلى الظلام وتعيدنا إلى الوراء ,ثم يميل من جديد ويستمع إلى شيخ ينادى بصوت
جهورى "أيها المسلمون إنها اللحظة الفارقة التى طال إنتظارها لإستعادة هويتنا الضائعة وإقامة دولتنا القوية كمثل تلك التى أقامها أسلافنا فى مهد الدعوة الإسلامية, علينا ألانسمح للعلمانيين أن يقودوا البلاد إلى الكفر والإلحاد" , يميل بأذنه فيستمع إلى بلطجى يهدد مجموعة من الناس صارخا فيهم " مش انتوا اللى عملتوا ثورة خلاص مابقاش فى الحكومة اللى كنتم بتتحاموا فيها",ثم من جديد يستمع إلى طبيب شهير يخاطب جاره " منهم لله العيال اللى بوظوا الدنيا وهيخربوا البلد وهم مش حاسين",أخيرا يستمع إلى بيان يلقيه ممثل العسكر وقد أمسك فى يده عصا غليظة ووقف بجواره شابا صغيرا-كانا قد ترافقا ذات ليلة فى إحدى نوبات حراسة الميدان- وقد كبله العسكر بالسلاسل الحديدية" ياشعبنا العظيم نحن منكم وبكم وحتى يعم الاستقرار بالبلاد ننشادكم بالتصدى للخونة عملاء الشيطان أمثال هؤلاء ثم يهوى بالعصا فوق رأس الشاب المكبل بجواره".
تذرف عينيه الدموع بحرقة شديد ثم يقوم بفتح اللابتوب ويكتب التويتة الأخيرة له"الثورة نور يضىء طريق الإنسان أما وقد عدتم إلى إرثكم من الصراعات الهادمة فأهنئوا بما إرتضيتم من ظلام " ثم يصعد إلى السور الحديدى للكوبرى ويلقى نظرة أخيرة على ضياع حلمه الذى كان يتمناه ثم يستقر غريقا فى قاع النهر.
بكيبورد:أشرف شعبان